الثلاثاء، 9 يونيو 2015

نظام الاستثمار البترولي المقترح في لبنان: إصلاحُه ضرورة!

http://lebanongasandoil.blogspot.com/2015/06/blog-post.html


السفير - نقولا سركيس

من حسن حظ لبنان أنه ليس البلد الأول أو الوحيد الذي يواجه السؤال حول أفضل نظام ممكن لاستثمار ثرواته الطبيعية. فقد سبقتنا على هذا الطريق عشرات البلدان الأخرى، خصوصاً البلدان النامية منذ فجر استقلالها، وكل الدول الأعضاء في منظمة «أوبك» عندما قررت منذ خمسينيات القرن الماضي في إيران، ومنذ السبعينيات في البلدان العربية، تأميم صناعة البترول والغاز وتصفية نظام الامتيازات القديمة، وأخذ زمام الأمور بيدها لممارسة حقوق السيادة على استثمار ثرواتها .

وليس من باب الصدف وجود قاسم مشترك للجواب الذي التقت حوله هذه الدول، لناحية نظام الاستثمار الجديد الأكثر تلاؤماً مع حاجاتها ومصالحها. والنظام الجديد الذي انتشر في مختلف أنحاء العالم هو النظام المعروف بتقاسم الإنتاج. والسبب البسيط لذلك أن هذا النظام يتجاوب مع إرادة البلدان المعنية بتملّك ثرواتها والمشاركة الفعلية في استثمار هذه الثروات عن طريق شركة نفط وطنية من جهة، كما أنه، من جهة ثانية، يؤمن سد حاجات هذه البلدان للرساميل والخبرة الأجنبية عن طريق المشاركة مع شركات بترول عالمية. وهذا كله يعتبر مرحلة انتقالية بانتظار تكوين كوادر وطنية وتطوير شركة بترول وطنية يمكنها، بعد اكتساب الخبرة اللازمة، أن تقوم بنفسها بدور المشغل (operator) وتحل تدريجياً محل الشركات الأجنبية. وهذا ما حصل بالفعل في إيران والدول العربية كالجزائر والمملكة السعودية والكويت والإمارات وغيرها...
والواقع هو أن لبنان قد بدأ لحسن الحظ خطواته الأولى في هذا المجال على الطريق المعقول والصحيح، عندما تبنى نظام تقاسم الإنتاج في قانون 132/2010 الخاص باستثمار الموارد البترولية في المياه البحرية. إذ إن هذا القانون يتضمن المبادئ الأساسية المتعارف عليها في العالم حول مكونات نظام تقاسم الإنتاج، ألا وهي مبدأ «تمكين الدولة من إدارة المواد البترولية» ومراقبتها (المادة 3) ومشاركة الدولة الفعلية والمباشرة في الأنشطة البترولية، وذلك عن طريق شركة وطنية (المادة 6).

مشروع مرسوم ينسف مبادئ القانون
بعد الخطوات الصحيحة الأولى التي حققها القانون 132/2010، حصلت لسوء الحظ بعض الانحرافات عن المبادئ التي نص عليها هذا القانون، خاصة تلك المتعلقة بنظام تقاسم الإنتاج. ولا ريب أن أخطر هذه الانحرافات هو ما جاء في مشروع المرسوم الخاص بالنموذج المقترح لعقد اتفاقيات التنقيب والإنتاج مع شركات أجنبية، وما تضمنه من بنود تتعارض تعارضاً صارخاً وأحكام القانون. هذا التعارض بين الاثنين يتعلق خاصة بالنقاط الجوهرية التالية التي تشكل صلب نظام الاستثمار المقترح:
1ـ طبيعة نظام الاستثمار: في حين أن القانون ينص حرفياً على أن نظام الاستثمار هو النظام المعروف عالمياً بنظام «تقاسم الإنتاج»، فإن مشروع المرسوم يتجاهل تماماً هذا النظام ليستعيض عنه بمفهوم خليط وممسوخ يسميه «تقاسم الأرباح»، الذي يختلف عن الأول اختلاف الليل عن النهار. ذلك أن هذا المفهوم يفرغ قانون 132/2010 من أحد مكوناته الأساسية، أي مشاركة الدولة الفعلية والمباشرة في الأنشطة البترولية، ويجعل منها مجرد جابي ضرائب ومتفرج على ما تقوم به الشركات العاملة.
2ـ المشاركة: ينص القانون صراحة على مشاركة الدولة في العمليات البترولية (المادة 6) في حين أن مشروع المرسوم ينص بكل بساطة على أنه «ليس للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الأولى» (المادة 5)، ويطلق بذلك رصاصة الرحمة في رأس نظام تقاسم الإنتاج، أي في تمكين الدولة من ممارسة حقوقها ومسؤولياتها في استثمار ثرواتها.
3ـ تناسي إنشاء شركة بترول وطنية: في حين أن القانون يشير إلى إنشاء شركة بترول وطنية، فإن مشروع المرسوم لا يأتي حتى على ذكر هذه الشركة المفترض فيها أن تكون الأداة الرئيسية للمشاركة الوطنية في الأنشطة البترولية، علاوة على كونها عين الدولة وذراعها في صلب هذه الصناعة وفي تطوير الكوادر والكفاءات الوطنية اللازمة، كما هي الحال في كل الدول الأخرى المتقدمة أو غير المتقدمة من المكسيك والبرازيل، إلى كل الدول العربية وغيرها في أوروبا وآسيا وأفريقيا.

التستر وراء النموذج النروجي
كثيراً ما يردد بعض أعضاء هيئة البترول أن نظام الاستثمار المقترح في لبنان مستوحى أو مقتبس من «النموذج النروجي». ومن المدهش في ذلك أن مقارنة ما تم ويتم في البلدين تدل بوضوح على أن سياسة البترول والغاز في لبنان لا تختلف عنها فحسب، بل إنها تناقض تماماً ما تم في النروج على كل الأصعدة، بما فيها الشفافية، ومشاركة المجلس النيابي والمجتمع المدني في الحوار الوطني حول السياسة البترولية، وإحكام مراقبة الدولة ومشاركتها الواسعة والفعلية في استثمار حقول بحر الشمال، وتطوير شركة البترول الوطنية «ستاتويل» التي انطلقت من العدم في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تصبح واحدة من أكبر شركات البترول العالمية.
هذا ناهيك عن حصة الدولة من أرباح الشركات العاملة، والتي تتكون في النروج من 27 في المئة ضريبة عادية على الشركات و51 في المئة ضريبة خاصة على الشركات البترولية، تضاف إليها ضرائب ورسوم أخرى ترفع مجموع حصة الدولة إلى حوالي 87 في المئة من أرباح هذه الشركات. وهذه النسبة تضاهي ثلاثة أضعاف ما يمكن أن يحلم به لبنان جراء نظام الاستثمار المقترح حالياً.
لذلك، فإن القول بأن لبنان استوحى سياسته البترولية من «النموذج النروجي» لا يمت إلى الواقع بصلة ولا يمكن اعتباره مديحاً للنروج!

الحاجة الماسة للشفافية
 منذ البداية، بدت سياسة البترول والغاز في لبنان وكأنها سر من أخطر أسرار أمن الدولة التي لا يجوز إفشاؤها خارج حلقة صغيرة من موظفي وزارة الطاقة وبعض المسؤولين. وفي طليعة النصوص التي ما زال يلفها ضباب السرية والتكتم، بعض مشاريع المراسيم التطبيقية لقانون 132/2010، خاصة النموذج المقترح لاتفاقيات التنقيب والإنتاج، والذي ينص بالحرف الواحد في المادة 35 على ضرورة «الالتزام بالسرية» من قبل كل الأطراف المعنية. ذلك في حين أن الأنظمة البترولية في سائر بلدان العالم تناقش داخل المجلس النيابي وخارجه وتباع في المكتبات.
ومن النتائج المذهلة التي أدى إليها التعتيم في سياسة لبنان البترولية ما حصل خلال دراسة ملفات 46 شركة أعلن في مطلع 2013 عن تأهيلها للحصول على حقوق تنقيب وإنتاج، وقد تبين بعد الإعلان الرسمي عن أسماء هذه الشركات أن بعضها لا يملك الخبرة اللازمة ولا علاقة له بالتنقيب عن البترول. فيما ثبت أن اثنتين من هذه الشركات تم تسجيلهما قبيل عملية التأهيل، وأنه حتى لا وجود لهما إلا على الورق. وقد علمت بعض وسائل الإعلام اللبنانية أن إحدى هذه الشركات تم تسجيلها في هونغ كونغ برأسمال لا يتجاوز 10.000 دولار هونغكونغي، أي ما يعادل 1.240 دولار أميركي فقط لا غير، ولم يُعط حتى الآن أي تفسير أو يُجرى أي تحقيق حول الموضوع!
هذا مع العلم أن شروط التأهيل الرسمية تقتضي بألا تقل موجودات الشركات أصحاب الحقوق البترولية عن 500 مليون دولار للشركات غير المشغلة (non-operators) و10 مليارات دولار للشركات المشغلة (operators).

خسائر مالية فادحة
وفقاً للنصوص الحالية، سيقتصر دخل الدولة خلال سنوات الإنتاج الأولى على إتاوة تعيسة لا تتجاوز 4 في المئة للغاز و5-12 في المئة للبترول. يضاف إليها في ما بعد، عندما تعلن الشركات عن ذلك، قسم من أرباح الشركات ترتسم حوله علامة استفهام كبيرة. إذ إن نسبته المئوية لم يحددها مشروع المرسوم المشار إليه، بل ترك الموضوع لعملية مزايدة فريدة من نوعها مع الشركات المعنية! تضاف إلى ذلك أخيراً ضريبة دخل لا تتجاوز حالياً، وبانتظار اعتماد قانون ضريبي جديد، 15 في المئة مقابل 20 في المئة في إسرائيل، ترتفع تدريجياً إلى 50 في المئة، و35 في المئة في الغابون والأرجنتين، و38 في المئة في الجزائر و50-60 في المئة في أنغولا و78 في المئة في النروج.

وهذه كلها أمور تترتب عليها خسائر فادحة للبنان. ويكفي مثلاً على ذلك نسبة الإتاوة الخاصة بالغاز التي لا تتجاوز 4 في المئة، أي 8.5 نقاط مئوية ما دون مستوى 12.5 في المئة المعروف والأكثر انتشاراً في العالم. وإذا افترضنا أن مجموع قيمة إنتاج الغاز لن تتجاوز 100 مليار دولار، فهذا يعني خسارة 8.5 مليارات دولار. أما إذا ارتفع مجموع قيمة الغاز المنتج إلى 500 مليار دولار كما تشير بعض التقديرات، فالخسارة ترتفع إلى 42.5 مليار دولار .

هذه الخسائر والانحرافات تدعو للقول ان نظام استثمار البترول والغاز الذي يقترحه مشروع المرسوم الذي لم يتم إقراره بعد، هو من أسوأ الأنظمة التي يمكن تصورها. ذلك أنه شوه نظام تقاسم الإنتاج الذي نص عليه قانون 132/2010، وألغى كل محاسنه من حيث مراقبة الدولة ومشاركتها الفعلية في الأنشطة البترولية، في حين أنه جمع مساوئ نظام الامتيازات القديم بإفساح المجال للشركات الأجنبية للتحكم باستغلال ثروة البترول والغاز الموعودة. لا بل إن النظام المقترح هو حتى أسوأ من نظام الامتيازات الذي تحررت منه كل الــدول العربية وغيرها منذ قرابة النصف قرن.
لهذه الأسباب كلها، تبرز الحاجة الملحة لتصحيح الانحرافات التي تنطوي عليها هذه النصوص، وإعادة سياسة لبنان البترولية إلى المسار الطبيعي والملائم الذي انتهجته سائر بلدان العالم والذي تبناه قانون 132/2010 من خلال نظام تقاسم الإنتاج.
هذا هو الشرط الأساسي الذي لا بد منه لتجنب هدر ثروتنا الموعودة وتحقيق آمال اللبنانيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق